في سياق سياسي استثنائي في تاريخ تونس لطالما كانت اللامركزية في قلب المشاريع والنقاشات السياسية، و كان الطريق الى ديمقراطية حقيقية، من شأنها أن “تصحح ّ مسار التاريخ”، كما ورد في توطئة الدستور محفوفا بالثغرات.
انتهت السلطة السياسية اليوم في شكلها الأكثر تحيينا إلى التمهيد لديمقراطية تشاركية نطمح من خلال هذا المقال الى تحليل مفهومها و إبراز التجارب التي نجحت في تبنيها قبل تقييم التجربة المحلية.
-
مفهوم الديمقراطية التشاركية
يفسر غياب أي إمكانية لدى الناخبين لممارسة رقابة على ممثليهم، بأي شكل من الأشكال على امتداد المدة التي تم توليهم إيّاها أساس أزمة الديمقراطية التمثيلية في العالم.
بناءا على ذلك برزت الديمقراطية التشاركية لا إلغاء للديمقراطية التمثيلية نهائيا، ولكن سعيا لتلافي أوجه القصور والعجز فيها بمحاولة حلّ المشاكل عن قرب، وضمان انخراط الجميع، وتطوير التدبير المحلي والوطني، خاصة وأن العديد من التحركات الاجتماعية لم تعد تجد في الديمقراطية التمثيلية سبيلا للتعبير عن مطالبها و تقديم حلول لها.
وتشير البحوث والدراسات التي تناولت إشكالية الديمقراطية التشاركية أن بروزها يرجع الى ستينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة الأمريكية حيث كانت أهم ما يدعو إليه اليسار الأمريكي لمواجهة الفقر والتهميش. من خلال أسلوب الحوار والتشاور مع المواطنين بشأن كيفية تدبير الشأن العام وصنع القرار الكفيل لمواجهة التحديات المطروحة محليا.
في أوروبا الغربية، أكد مؤتمر للاتحاد الأوروبي حول الديمقراطية التشاركية المنعقد بالعاصمة البلجيكية في مارس 2004 على أن “الديمقراطية التشاركية هي الحل للازمة وقيمة مضافة لدول الاتحاد الأوروبي” كما أكد على ضرورة “أن تضخ الديمقراطية التشاركية دما جديدا للديمقراطية لتكمل الديمقراطية التمثيلية وتنمية التعاون مع باقي الشركاء الاجتماعيين”.
أما في فرنسا فقد أثبتت التجارب المطروحة أن التشاور و الحوار بشأن المشاريع الكبرى كان له الأثر الفعال لحل النزاعات. و يمكن أن نستشهد في هذا السياق بتقرير ل”سيدريك بولير” حول الديمقراطية التشاركية، الذي يعتبر فيه أن تبني التشريعات للديمقراطية التشاركية يرجع الى عدم قدرة المواطنين عن التعبير عن اهتماماتهم و انشغالاتهم نظرا لتعدد المؤسسات وتنوعها كما اعتبر البعض من جهابذة المفكرين للديمقراطية التشاركية على غرار “هابرماس” أن القرار السياسي يستمد مشروعيته عن طريق الاقناع والحوار.
و حتى نفكك هذا المفهوم، تتجسد الديمقراطية التشاركية في مجموعة الإجراءات والوسائل والآليات التي تتيح للمواطنين الانخراط المباشر في تسيير الشؤون العامة أي مشاركة المواطنين في القرارات السياسية والإقتصادية ذات الأولويات بالنسبة إليهم و تمكينهم من تتبع البرامج التنموية من التخطيط والتنفيذ وصولا الى المراقبة والتقييم. فالمواطن إذا أردنا تصنيفه داخل هذه المنظومة هو أكثر من ناخب، لكن أقل من صاحب القرار.
-
ثورة قانونية على مستوى التنظيم الإداري والترابي ولكن..
عرفت منظومة الحكم المحلّي في تونس باعتبارها جزءا لا يتجزّأ من التّنظيم السّياسي والإداري تطوّرا لافتا في تشريعاتها بدءا من الاستقلال وصولا إلى اليوم. و هو ما يعكس الرغبة السياسية لسنوات في الدفع بمزيد من السلطة المحلية. فقد ذكر الباب الثامن من دستور 1959 الجماعات المحلية، وخصّ بالذكر صنفين منها وهي المجالس البلدية والمجالس الجهوية، وأجاز القانون آنذاك سلطة منح أي هيكل آخر صفة الجماعة المحلية.
استعمل دستور 2014 في بابه السابع مصطلحا قانونيا جديدا لم تألفه المنظومات القانونية وهو مصطلح السلطة المحلية، وترجمت فصوله الاثني عشرة تغيير فلسفته عن النظام السابق له. ما يحيلنا إلى أزمة على مستوى المفاهيم المستعملة فمفهوم السّلطة المحلّية أعمق بكثير من مفهوم الجماعة المحلّية باعتبار أن السّلطة المحلية مهمتها أساسا رسم السّياسة العامّة للدّولة وإدارة المرافق العموميّة، بينما تمثّل الجماعة المحلّية مجموعة من السّكان داخل حدود جغرافيّة معيّنة، تميزهم خصائص اجتماعيّة وثقافيّة واقتصاديّة معيّنة، ولهم من يمثّلهم في المجلس البلدي.
من هنا طرح الفصل 131 من هذا الدّستور اشكالا باعتبار أنّ التّقسيم الإداري لا يخدم تحقيق اللاّمركزيّة، فالمصالح الإداريّة والإقتصاديّة للمواطن التونسي لا ترتبط لزاما بالحدود الجغرافيّة.
أما على مستوى التغييرات التي نصّ عليها هذا الدستور فهي عديدة كانت أهمها تعميم الجماعات المحلية على كافة تراب الجمهورية، كما نصّت مبادئ الدستور على أن المجالس البلدية والجهوية منتخبة انتخاباً مباشراً، وأن مجالس الأقاليم تنتخب من قبل أعضاء تلك المجالس. و أكّدت أحكامه على الاستقلالية الإدارية والمالية وإدارة الشأن وفق مبدأ التدبير الحر، أما المبدأ الأهم في سياق هذا المقال، فهو الذي يؤسس إلى اعتماد الديمقراطية التشاركية.
● الانتخابات المحلية تأصيلا لديمقراطية تشاركية في تونس
عقب إعلان الحالة الاستثنائية في 25 جويلية 2021 ، وتجميد أعمال البرلمان السابق و من ثم حله، جاء الأمر 117 المؤرخ في 22 سبتمبر 2021 ليعلن تعليق أبواب من الدستور. و قد أحال هذا الأمر إلى مبدأ سيادة الشعب في توطئة الدستور والفصل الثالث منه.
كانت الاستشارة الإلكترونية الخطوة الأولى في خارطة الطريق التي أعلنها الرئيس قيس سعيد عقب اتخاذ التدابير الاستثنائية والتي أفرزت بموجبها تنظيم استفتاء 25 جويلية 2022 كأسلوب من أساليب الديمقراطية المباشرة. وها نحن الآن بعد انتخاب أعضاء البرلمان مطلع هذه السنة أمام المحطة الأخيرة لبناء الديمقراطية التشاركية.
في هذا الإطار، تتجه اليوم أنظار و تحاليل مراقبي الشأن العام إلى المرسوم عدد 10 لسنة 2023 المتعلق بتنظيم انتخابات المجالس المحلية و تركيبة المجالس الجهوية ومجالس الأقاليم الذي تعتبر كل عمادة وهي أصغر قسم إداري دائرة انتخابية، تقوم بانتخاب ممثل واحدا عنها، ويتم انتخاب المجلس الجهوي عن طريق القرعة بين أعضاء المجلس المحلي.
أما مجلس الإقليم فيقع الترشح له من الأعضاء المنتخبين في المجالس الجهوية، وكل مجلس جهوي ينتخب ممثلا واحدا له بمجلس الإقليم. كما ينتخب كل مجلس جهوي 3 أعضاء لتمثيل جهاتهم في المجلس الوطني للجهات والأقاليم ما يعرف بالغرفة الثانية للبرلمان.
وينتخب أعضاء مجلس كل إقليم نائبا واحدا لتمثيلهم في المجلس الوطني للجهات والأقاليم.
تفصلنا أيام قليلة عن إجراء الانتخابات المحلية، وهو استحقاق يتطلع إليه التونسيون اليوم لبناء ديمقراطية تشاركية، يكون فيها المواطن صاحب قوة اقتراح وتغيير. و لكن تبقى مخاوف المراقبين للعملية الانتخابية في ظل ارتفاع نسبة العزوف في المناسبات الانتخابية السابقة و دعوة المعارضة إلى مقاطعة الانتخابات المحلية .
مبدئيا يبدو تبني الديمقراطية التشاركية كوسيلة لتكريس وتحقيق التنمية المحلية منهجا يتناسب مع مرحلة ما بعد الثورة و تجسيدا لمشاركة القوى الشبابية والاجتماعية في الحكم وفي التوزيع العادل للثروة والتنمية.
غير أن فعالية الديمقراطية التشاركية ودورها في التخطيط المحلي تعاني عديد العقبات في تونس يمكن ايجازها في محدودية آليات الديمقراطية التشاركية واقتصارها على الاستشارة العمومية و الاستفتاء.
هي ديمقراطية يستوجب تطبيقها بالضرورة وضع الصراع السياسي والإيديولوجي جانبا لضمان نجاح أهداف المشروع الديمقراطي التشاركي.
سناء النحالي