يعتبر المجتمع المدني أحد أشكال تأطير وتنظيم المجتمعات، لكونه يعمل على تحقيق نوع من التعاون بين الأفراد والجماعات، في عدة مجالات، من أجل حماية حقوق ومصالح مختلف الفئات.
وعليه، فالمجتمع المدني في تونس له جذور عميقة تثمنت منذ القدم بفضل دوره في تنشيط الساحة السياسية،الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية وغيرها من المجالات.
يمثّل المجتمع المدني اليوم دعامة صلبة لخلق الوعي المدني والاهتمام بالشأن العام، بل أكثر من ذلك، إذ لا يمكن تصور احتراما لحقوق الإنسان أو تصور تجربة ديمقراطية دون كسب معركة الحريات الأساسية.
فوجود الجمعيات، وهي من أهم مكونات المجتمع المدني، يشكل اليوم ضرورة لا غنى عنها في أي نظام ديمقراطي، ذلك ما جعل أغلب البلدان تسعى لتكريس هذا الحق في دساتيرها وتشريعاتها المختلفة، وذلك بالنظر للدور الذي تلعبه الجمعيات في بناء وتوعية المجتمع والمواطن على حد السواء.
سعت الدولة التونسية بعد الاستقلال إلى اعتماد وتبني الحق في تأسيس الجمعيات في جميع دساتيرها المتعاقبة، ونجد أن القراءة المتأنية لهذه الدساتير قد كرست الحق في تأسيس الجمعيات منذ دستور 1959 الذي نص في فصله الثامن على أن “حرية الفكر والتعبير والصحافة والنشر والاجتماع وتأسيس الجمعيات مضمونة وتمارس حسبما يضبطه القانون” وهو نفس النهج الذي سارت عليه التعديلات التي طرأت على هذا الدستور إلى غاية 2002، كما أن دستور 2014 اعتمد نفس النهج في الفصل الخامس والثلاثون منه ولحقه في ذلك دستور 25 جويلية 2022 من خلال مقتضيات فصله الأربعون.
هذا وقد شهدت القوانين المتعلقة بالجمعيات في تونس تطورات كبيرة ومتلاحقة سواء في مرحلة الأحادية أو في ظل التعددية، إذ بادر النظام السياسي منذ 2011 بإفراز جملة من الإصلاحات التي تعلقت بموضوع الحريات العامة، فصدر على إثرها المرسوم عدد 88 لسنة 2011 والمتعلق بتنظيم الجمعيات.
يخضع تكوين الجمعيات في تونس بالأساس إلى مقتضيات هذا المرسوم، وقبل إرساء هذا الأخير، كان خاضعا إلى مقتضيات القانون عدد 154 لسنة 1959 المؤرخ في 7 نوفمبر 1959 المتعلق بالجمعيات، في حين كانت الجمعيات الأجنبية تخضع لمقتضيات القانون الأساسي عدد 80 لسنة 1993 المؤرخ في 26 جويلية 1993 المتعلق بانتصاب المنظمات غير الحكومية بالبلاد التونسية، وقد ألغيت هذه الأحكام بموجب الفصل السادس والأربعون من المرسوم عدد 88 لسنة 2011.
كما تجدر الإشارة إلى أن الدولة التونسية قد صادقت بتاريخ 18 مارس 1969 على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر بموجب قرار الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة المؤرخ في 16 ديسمبر 1966، والذي أقرت المادة الثانية والعشرون منه “على أن لكل فرد حق في حرية تكوين الجمعيات مع آخرين… لا يجوز أن يوضع من القيود على ممارسة هذا الحق إلا تلك التي ينص عليها القانون وتشكل تدابير ضرورية، في مجتمع ديمقراطي، لصيانة الأمن القومي أو السلامة العامة او النظام العام أو حماية الصحة العامة أو الآداب العامة أو حماية حقوق الآخرين وحرياتهم”.
كما وافقت على الانضمام الى البروتوكول الاختياري الملحق به بموجب المرسوم عدد 3 لسنة 2011 المؤرخ في 19 فيفري 2011، كما أنّ حرية تأسيس الجمعيات هي حق أقره الفصل العاشر من الميثاق الافريقي لحقوق الانسان والشعوب المصادق عليه والذي يقر بأنه ” يحق لكل إنسان أن يكون وبحرية جمعيات مع آخرين شريطة أن يلتزم بالأحكام التى حددها القانون”.
يبدو أن الدور قد حان على الجمعيات في تونس في إطار موجة “الاستهدافات” التي تطال المؤسسات والهيئات والأجسام الوسيطة وغيرها من المكونات بالبلاد، وذلك بعد تجدد الجدل بخصوص المرسوم المنظّم لها والتوجه نحو تغييره.
وانطلق الجدل هذه المرة حول مشروع قانون يلغي مرسوم الجمعيات، الذي عرف بدوره عدة محاولات لتنقيحه من قبل السلطة التنفيذية كمحاولة لكبح جماح هذا الهيكل الرقابي والتعديلي، وكما لو أنّ التاريخ يعيد نفسه، تجدد وضع مسألة “التمويل الأجنبي للجمعيات” على الطاولة، لتكون الورقة الرابحة.
لكن تبقى محاولة التنقيح الأخيرة هي الأخطر على الإطلاق، والمتمثّلة في مقترح قانون تم عرضه على البرلمان لتتمّ إحالته على لجنة الحقوق والحريات بتاريخ 12 أكتوبر 2023 للنّظر فيه ومناقشته قبل عرضه على الجلسة العامة للمصادقة النهائية.
وبالرغم من إمكانية التحاجج بأنّ هذا المقترح عُرض من طرف عدد من النواب الذين تمّ انتخابهم من قبل الشعب ومناقشته داخل المُؤسسة التشريعيّة، وبالتالي فإنّ مُرور هذا المقترح والمصادقة عليه بعد نقاشه صلب اللجنة المعنية بالنظر وصلب الجلسة العامة لمجلس نواب الشعب سيجعل منه قانونا يكتسي نوعا من المشروعيّة، إلّا أن برلمان الرئيس بصيغته الحالية لن يعدو أن يكون أكثر من مكتب للتأشير بالقبول على قرارات السلطة التنفيذية الخاضعة لتصوّرات رئيس الجمهورية، بل إنّ عقول جلّ “الوظائف الدستوريّة” تشتغل ضمن أطر براديغمات السلطة العليا في البلاد ذات النفس السّاعي وراء إلغاء الأجسام الوسيطة والعودة بالحياة السياسية إلى طور الدولة الأوليّة التي ارتبطت بالشكل النّطفي المُبكّر جدّا للعقد الاجتماعي الذي يسعى إلى تحويل الشعب إلى ما يشبه الوحدة السياديّة بين يديْ القائد ورهن تصرّف عقله السياسي.
– المرسوم 88: وليد تجربة الانتقال الديمقراطي:
منذ إصداره سنة 2011، مكّن المرسوم 88 المتعلق بالجمعيات من خلق ديناميكية لعمل منظمات المجتمع المدني، إذ وصل عددها بتاريخ 5 جانفي 2024 إلى حوالي 24954 جمعية، اعترف لها المشرع التونسي بجملة من الحقوق وأقر لها واجبات محددة، أهمها أن تحترم في نظامها الأساسي وفي نشاطها وتمويلها مبادئ دولة القانون والديمقراطية والتعددية والشفافية والمساواة وحقوق الإنسان، تعتبر هذه الضوابط مفاهيم فضفاضة تعبر عن نية السلطة في عدم قبول أي جمعية تكون خارجها، خاصة في ظل غياب تعريف محدد لها .
وعليها أن لاتعتمد في نظامها الأساسي أو في برامجها أو في نشاطها الدعوة إلى العنف والكراهية والتعصب والتمييز على أسس دينية أو جنسية أو جهوية وأن لا تمارس الأعمال التجارية لغرض توزيع الأموال على أعضائها للمنفعة الشخصية أو إستعمال الجمعية لغرض التهرب الضريبي، كما يحجر على الجمعية أن تجمع الأموال لدعم أحزاب أو مترشحين مستقلين ، وهذا دليل على رغبة المشرع في ضمان الاستقلالية الكافية للجمعيات وذلك بإبعادها كليا عن المجال والنشاط السياسي.
وقد منع المشرع على الجمعيات قبول مساعدات أو تبرعات أو هبات صادرة من دول لا تربطها بتونس علاقات دبلوماسية، وهذا المنع يفسر بالرغبة في المحافظة على أمن الدولة ونظامها من التدخلات تحت غطاء المساعدات.
فالإنفتاح الذي عرفته المجتمعات المعاصرة قد إنعكس على المجتمع المدني ونشاطاته وعلاقاته، حيث أصبحت بعض مكونات المجتمع المدني الوطني والمحلي مرتبطة بشكل أو بآخر بالخارج، وهو ما أدى إلى ظهور بعض الإشكاليات، كالتخوف من التدخل السافر في السيادة إلى جانب ظهور التبعية التمويلية التي ترتبط بالتبعية السياسية.
تعدّ الرقابة من أهم مراحل العملية الإدارية، كما تعدّ صمام الأمان لكل ما من شأنه الإخلال بالمؤسسات وقدرتها على تحقيق أهدافها ومخططاتها، وبالتالي، الرقابة المفروضة على الجمعيات متعددة المستويات وتتمثل في رقابة التعليق أو الحل والذي قد يكون إما اختياريا أو قضائيا.
لقد تمخض عن التجربة التونسية خلق مبادرات مهمة نحو تكريس مبدأ حرية التنظيم وإنشاء الجمعيات، وبالتالي، نستنتج أن المرسوم عدد 88 لسنة 2011 جاء خلافا للنصوص السابقة المؤطرة للعمل الجمعياتي في تونس، متمتعا بمسحة تحررية طبعت أغلب أحكامه.
كما أن المرسوم هو نتاج ثورة أفضت لإرساء معالم الديمقراطية في مجال الحقوق والحريات فساهم من خلال أحكامه بإنعاش عمل المجتمع المدني التونسي.
يمكن أن نصنف المرسوم عدد 88 لسنة 2011 ضمن جيل جديد من قوانين الجمعيات في دول المغرب العربي، والذي يسعى للأخذ بالمعايير الدولية وبتجارب الدول المتقدمة في مجال ضمان حرية تكوين الجمعيات، فهو يختلف عن التشريعات السابقة وذلك لعدة أسباب من بينها تبسيط إجراءات تأسيس الجمعيات بما يوافق المعايير الدولية، ومن أهمها المادة الواحدة والعشرون من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي ألغى مبدأ الترخيص المنصوص عليه سابقا وتم تعويضه بنظام التصريح في القانون الحالي.
أما فيما يتعلق بالرقابة المفروضة على الجمعيات، فهي رقابة لاحقة تطبق على الأنشطة الفعلية وفقا لمبدأ التدرج: من الرقابة الإدارية بدأ بالتنبيه، إلى الرقابة القضائية بالتعليق أو الحل، هذا وقد منح المشرع في المرسوم الحالي حماية للجمعيات بمنع أي عرقلة أو تعطيل من طرف السلطات العمومية.
أما بخصوص الجانب المتعلق بالتمويل، فقد حصر المشرع مصادره، وقيّد التمويل الأجنبي بشرط وجود علاقة دبلوماسية تربط الدولة المانحة بالدولة التونسية.
بالإضافة إلى ذلك، نجد أن المشرع قد أسند سلطة التأسيس للكاتب العام للحكومة، وهذا يعني إسناد سلطة التأسيس للسلطة التنفيذية مما قد يؤثر نوعا ما على حرية تكوين الجمعيات، كما نجد أن المشرع ارتقى بهذا النص، حيث لم يتطرق لعقوبة السجن والغرامة المفروضة على أعضاء الجمعية في حالة ارتكاب مخالفات كما جاء به المشرع الجزائري والمشرع المغربي على سبيل المقارنة.
وبالتالي، يمكن القول أن النموذج التونسي من أنجع النماذج العربية في هذا السياق، حيث يعتبر المرسوم عدد 88 نصا تحرريا تبنى، رغم النقائص الواردة فيه، أهم المعايير الدولية في مجال التأسيس والتسيير والتمويل وكان له أثر إيجابي على الحياة الجمعياتية.
– مقترح القانون الجديد: تأسيس موجّه لإضعاف عمل المجتمع المدني:
تتجلى محاولات ضرب الجمعيات في تونس من خلال حجم وخطورة التغييرات الواردة على مقترح القانون الجديد مقارنة بالضمانات التي تمّ التنصيص عليها صلب نصّ المرسوم 88 الذي احترم في صياغته المعايير الدولية المتعلقة بحريّة تكوين الجمعيات.
ففي الواقع، يختلف مشروع القانون المعروض أمام لجنة الحقوق والحريات عن الإطار القانوني الحالي بشكل كبير، فبينما يمنع الفصل السادس من المرسوم التدخل المباشر أو غير المباشر في نشاط الجمعيات من قبل السلطات العمومية، يقترح المشروع عكس ذلك تماماً، وبموجبه، يتوجب على الجمعيات أن تخضع لرقابة وإشراف الوزارة المختصة التي تندرج تحتها كل جمعية على حدة.
يمس نص المقترح بمبدأ استقلالية الجمعيات عبر حذفه لعبارة “والحفاظ على استقلاليّتها” الواردة بالفصل الأوّل من المرسوم 88، وهو ما يتجلى أكثر في العديد من الفصول اللاحقة في مقترح القانون، إذ نجد في الفصل السادس التّنصيصَ على تبعيّة كلّ جمعية لوزارة معيّنة، حيث تضبط عملية التوزيع انطلاقا من اختصاص كل جمعيّة، وتوكل للوزارات مهام الإشراف والرقابة على أنشطة تلك الجمعيات.
كما يمنح الفصل الثالث والعشرون للوزارة المختصة الحق في”التأكد من مطابقة أعمال الجمعيات للقانون حسب نوعية نشاطها” وهو ما يمثّل شكلا من الرقابة الهيكلية التي لا نجدها إلا في الدكتاتوريات، أما في دولة القانون، لا يمكن أن تمارس الرقابة منطقيا إلا من قبل الأجهزة الرقابية المختصة أو القضاء.
وبهذا الشكل فإنّ الرقابة القبليّة واللاحقة على الجمعيات من قبل وزارة الإشراف سيحدّ من الدور الرقابي للجمعيات، فقد اضطلعت هذه الأخيرة طيلة فترة الانتقال الديمقراطي بدور أساسي في دفع المواطنين والمواطنات للاهتمام بالشأن العام من خلال انخراطهم بها وممارستهم لأعمال الرقابة والمُشاركة في أنشطة المؤسسات والهياكل العمومية سواء منها المركزية مثل الوزارات والهيئات أو الجهوية والمحلية مثل البلديات والمندوبياّت التابعة للوزارات، وذلك عبر مطالب النفاذ إلى المعلومة والمراقبة المواطنيّة لتخطيط وتنفيذ المشاريع.
كما ادّعى مقترح القانون الجديد المحافظة على نظام التصريح الذي أقرّه المرسوم 88 في إجراءات الإعلان عن الجمعيات، لكن في الواقع نلاحظ أنّ نظام التسجيل المقترح يمنح سلطة تقديريّة واسعة للإدارة المعنيّة برئاسة الحكومة لتعطيل عمليّة إنشاء الجمعية قانونيا لمدّة شهر من تسلّم التصريح وهو ما يعطيها عمليا صلاحية رفض التأسيس.
منحت أيضا الفقرة الثالثة من الفصل التاسع صلاحية الإدارة في تقديم عريضة إلى الجهة القضائية المختصّة للفصل في مطلب إبطال الإعلان دون أن ينصّ الفصل ذاته على ضرورة تقديم حجج أو أسباب لهذا الطلب، وهو ما سيجعل من هذه الصلاحية سلاحا يستعمل لتعطيل تكوين الجمعيات.
مع الاعتماد على نظام ترخيص مقنّع بخصوص الجمعيات الوطنيّة، أقرّ مقترح القانون الجديد نظاما قائما على الترخيص بالنسبة للمنظمات الأجنبية. حيث نصّ على ضرورة حصول المنظمات الأجنبية على ترخيص صادر من وزارة الشؤون الخارجية يمكّنها من إنشاء فروع لها في تونس ، على أن يسند هذا الترخيص بصفة مؤقتة أو أن يقع تجديده بصفة دورية مع إمكانية سحبه بموجب قرار وفي أي وقت كان، وهو ما جاء به الفصل عشرون من نص المقترح، مما يتعارض مع موقف الدولة التونسية بعد 25 جويلية مناسبة ردّها على المراسلة الصادرة عن المفوضية السامية لحقوق الإنسان حول طلب تقديم ملاحظات بخصوص ما ورد في البلاغ المشترك الصّادر عن مكتب الإجراءات الخّاصة لمجلس حقوق الإنسان والمتعلقة بفحوى مشروع تنقيح المرسوم 88 لسنة 2011، أين أشادت بضرورة المُحافظة على نظام التصريح في تكوين الجمعيات الوطنية وفروع المنظمات الدوليّة معتبرة إيّاه مبدأ لا يجوز التراجع عنه.
تخضع هذه المنظمات الأجنبيّة للرقابة والإشراف في نشاطاتها للإدارة العامة برئاسة الحكومة، حسب ما جاء به الفصل السادس المذكور سابقا من المقترح، وبالتالي فإنّ هذه المنظمات تخضع أيضا لسلطة الجهاز التنفيذي مثلها مثل الجمعيات.
تم استلهام هذا النظام من القانون المنظّم للجمعيات الذي سبق المرسوم 88 والذي كان ينصّ في فصله السابع عشر على أنّ تكوين أي جمعية أجنبية ونشاطها لا يُمكن أن يكون إلّا بعد تأشيرة قانونها الأساسي من طرف كاتب الدولة للداخلية، مع إبداء رأي كاتب الدولة للشؤون الخارجيّة. كما يمكن أن تمنح هذه التأشيرة بصفة مؤقته أو أن يقع تجديدها بصفة دوريّة حسب مقتضيات الفصل التاسع عشر من نفس مقترح القانون. وهنا نستوضِح النزعةَ التسلطيّة التي استلهمها هذا النص عبر رفضه لما تمّ تكريسه صلب المرسوم 88 الذي صيغت مختلف أحكامه بالروح التحرريّة التي أحدثتها ثورة 17 ديسمبر – 14 جانفي 2011.
وهو ما نتبيّنه كذلك من خلال توسيع نصَّ مقترح القانون المعروض على أنظار لجنة الحقوق والحريات بمجلس نواب الشعب على أنّ النشاط صلب الجمعيات وجب أن يكون نشاطا تطوعيّا، أي دون مقابل ماديّ، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ تطور العمل في الجمعيات أخذ شكلا احترافيا و تقنيا يمثّل ظاهرة مهنية عالمية يمكن مناقشة إيجابياتها و سلبياتها، إلا أنّ السعي إلى منعها تماما لا يمكن أن يندرج إلا في إطار رغبة السلطة في إضعاف وإسكات جميع الأصوات المقلقة والناقدة لممارساتها، علما وأن عقود الخدمة المدنية لدى الجمعيات تمثل إحدى الآليات التي تعتمدها الدولة في سياستها المحفّزة للتشغيل، وهو ما يبرز جهل أصحاب هذا المقترح بالسياسات العمومية للدولة ويجعلنا نشك في مدى جدّيته.
فكيف لمقترح قانون ينظم نشاط الجمعيات أن ينصّ على أن العمل فيها تطوّعي في الوقت الذي تنظّم فيه الدولة آلية تشغيل لدى الجمعيات؟
كما نستقي من مقترح هذا القانون المحاولات المتعدّدة للتّضيّيق على الجمعيات وضرب حريّة نشاطها من خلال التخفيّ وراء تعلّة الإرهاب باعتبارها جريمة بالغة الخطورة ولها تشعبات معقّدة ومركّبة، واستعمال ذلك كحجّة للضّغط والتّضييق على الجمعيات عبر التنصيص في الفصل الرابع والعشرون من المقترح على صلاحية رئاسة الحكومة في حلّ الجمعيات ذات الخلفية أو الشبهة الإرهابية بصفة آلية. وهنا نرى سطوة السلطة التنفيذية على صلاحيات السلطة القضائية واستعمال مجرد الشبهة كشرط لحل الجمعية.
سيكون هذا الفصل بمثابة أداة للتهديد والضغط على الجمعيات التي ستحاول ممارسة دورها الرقابي بكل حرية لتصحيح أو نقد بعض السياسات الحكومية.
أولى مقترح القانون أهمية إلى الرقابة على الجمعيات التي تتلقى تمويلات أجنبية جاعلا منها أمام حتمية الخضوع إلى الموافقة المسبقة من رئاسة الحكومة.
وتجدر الاشارة في هذا الصدد إلى أن الجمعيات لا تخضع للمرسوم عدد 88 فحسب، بل تسري عليها كذلك أحكام القانون المتعلق بمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال، وهو ما يؤكد أن الإطار القانوني الحالي يتضمن ما يكفي من الآليات لرقابة الجمعيات وزجر التجاوزات في حال ثبوتها.
حاول مقترح القانون إضفاء قناع زائف عبر إحداثه صلاحية جديدة للجمعيات لم نر لها وجودا في السابق، وتتمثّل في صلاحيّة استصدار العرائض الشعبية والطلبات التشريعية: وهو إجراء جديد جاء به مقترح هذا القانون، إلا أنه وجب علينا أن نسوق ملاحظة متمثلة في الشّرط التعجيزي في إصدار الطلبات التشريعية التي تستوجب جمع نصف مليون توقيع مواطن أو توقيع ألفي جمعية (2000)، ومنه، يمكن التساؤل عن إمكانية بقاء هذا العدد من الجمعيات في تونس في ظلّ وجود أحكام تضييقية على نشاطها.
أصبحنا نشهد اليوم معركة وجود بين سلطة تبحث عن الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بعيدا عن النقد والمتابعة والمساءلة، وبين مجتمع مدني نجح في فرض وجوده باعتباره فاعلا أساسيا في المجتمع التونسي يرفض التخلي عن قيمته التي اكتسبها بفعل تراكمات الماضي من خلال منظمات تاريخية عريقة وجمعيات جديدة مناضلة أبت إلا أن تكون العين الرقيب مهما كان اللون السياسي للحاكم. ولذلك، فقد كان من المفروض تشريك منظمات المجتمع المدني في تحسين تطبيق كل مقتضيات المرسوم 88 ومختلف القوانين ذات العلاقة بدلا من الغاء مرسوم الجمعيات وتعويضه بقانون جديد.
ويعود تخوّف السلطة من المجتمع المدني إلى فشلها في الرقابة، محاولة الهيمنة على الجمعيات، بما انها جسم وسيط قوي يهدد قوتها، مما جعلها تعمل على تقنين هيمنتها وخلق مونوبول شرعي يضمن التحكم “الديكتوقراطي”، فالنظام السياسي الحالي لايزال يبحث عن ترسيخ مكانته في المجتمع ولا يقبل أن تهدد هذه القيمة من قبل جسم وسيط يدعى المجتمع المدني الذي يعارض ويكشف الحقائق ويعري الفشل والتجاوزات ويقنع الأفراد بالخروج في تحركات معارضة، قد تبدو معركة “قانون” ولكنها معركة “سياسة” في محاولة لإعادة تشكيل علاقة التوازن داخل السيستام الجديد لصالح السلطة وإعادة تشكيل مجتمع سياسي مهيمن على المجتمع المدني “المموّل من الخارج”، على حساب الدولة.
إن صناعة “سيستام سياسي” جديد، يفرض القطع مع القديم بجميع مكوناته وأطرافه الفاعلة، فيفرض إعادة تشكيل للوزارات ولأجهزة الدولة وتخل عن الأحزاب و النقابات والمنظمات والجمعيات، كما لا يجب أن يستثني هذا التغيير العلاقات في الحقل السياسي الدولي وأن يعيد إرساء ثوابت وتشريعات جديدة إلى أن يكتمل المشهد: مشهد ديكتاتوري لا تفريق فيه بين السلط، لا تعددية ولا حياة حزبية فيه ولا وجود فيه لمجتمع مدني قوي وداعم لكل المجهودات المدنية والمجتمعية.
بين تراكمات الجمعيات العريقة وحماس جيل جديد من الجمعيات الناشئة بعد الثورة، نشأ مجتمع مدني قوي وحرّ، لكن هذه المساهمات تقلصت منذ سنوات بسبب التضييقات التي وضعتها السلطة السياسية وطبقتها تدريجيا، وهي من جهة، تضييقات تشريعية ناتجة عن اعتماد قوانين تهدد حرية الجمعيات، ومن جهة اخرى، تضييقات إجرائية متعلقة بتكوين الجمعيات وأنشطتها وتمويلها.
يجب أن يمارس الحق في تكوين الجمعيات داخل بيئة قانونية لا تفرض قيودا قد تفرغه من محتواه، إلا ما يجيزه القانون الدولي، وخصوصا القانون الدولي لحقوق الإنسان وتكون الاستثناءات المتعلقة بحرية التنظيم على أساس شرطين متلازمين؛ أولهما شرط الضرورة التي يفرضها المجتمع الديمقراطي، وثانيهما احترام شرط التناسب الذي يفرض على الدول الالتزام بتدابير تتناسب مع الأهداف المشروعة.
كما لا تقتصر البيئة القانونية ذات الصلة بحرية التنظيم على النصوص الدستورية والتشريعية والترتيبية المنظمة لها بصفة مباشرة فحسب، بل هي أيضا رهينة بيئة قانونية أشمل تتناول جميع الحقوق ذات الصلة.