اتّجهت البلاد منذ فترة إلى التخلّي عن طابعها الاجتماعي بعد أن اجتاحت الخوصصة قطاع التعليم و الصحّة و انتشرت المدارس و المعاهد الخاصّة في كلّ مكان و انتهى عصر تكافؤ الفرص لتدخل البلاد مرحلة جديدة يتحوّل فيها قطاع التعليم إلى منتوج معلّب خاضع لقوانين العرض و الطلب تماما كعلب السردين و الطماطم و الزيت النباتي … هذه الكارثة المعلنة ستفقد الدّولة رهانها الاستراتيجي على الرأسمال البشري بعد أن تحوّل التعليم رهين امكانات العائلة و الوسط الاجتماعي … هذا التعليم الذي كان علامة مضيئة و مشرقة و وسيلة للارتقاء في السّلم الاجتماعي لمواطنين دون شروط مسبقة…
رغم خطورة خوصصة التعليم تبقى المسألة خيارا سياسيّا معلنا يتحمّل مسؤوليته القائمون على الدّولة و لكن الأخطر من ذلك هوّ ما عرف بدروس التدارك أو الدروس الخصوصيّة و التي تحوّلت إلى مؤسّسات تعليميّة موازية خارجة عن رقابة وزارة التربية و وزارة الماليّة هذه المؤسّسات التي تدرّ أرباحا طائلة هيّ إحدى الخانات السّوداء المظلمة و هذه الفقاقيع المنتشرة في كلّ البلاد في المنازل و المستودعات تزايد الإقبال عليها في السنوات الأخيرة بعد أن تحوّلت إلى ملاذ للعاجزين عن تسجيل أبنائهم في المدارس و المعاهد الخاصّة …
لا رقابة صحيّة و لا نفسيًة و لا إداريّة على هؤلاء القصّر و لا أحد يعلم عائدات هؤلاء المنزًهين عن الابتزاز و العنف و التحرًش … و هم في كلّ ذلك مستفيدين من الصّمت المشبوه للدّولة و مؤسّساتها .
إنّ أباطرة الدروس الخصوصيّة و تجّار العلم يراهنون على انحياز الوعي الجمعي للعلم و تلك السوسيولوجيا النبيلة التي تقدّس العلم و المعرفة و هم بذلك يغتالون قيمة أساسية يتأسّس عليها هيكل الشخصيّة المجتمعيّة و التي جعلت هذا البلد الصغير مصنعا للكفاءات و العقول و الأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى و تكفي الإشارة للأطبّاء و المهندسين التونسيين في المنتشرين في كلً أصقاع الأرض و هذا موضوع أكثر عمقا و تعقيدا يضيق المجال بالتمعّن فيه .
بعيدا عن التوصيف و التقييم لقد آن الأوان لتتدخّل الدّولة و عقلها السياسي لوضع حدّ لمسألة الدروس الخصوصيّة و تنظيمها و ردع كلّ الخارجين عن القانون لأنّ المسألة تتعلّق بمصير البلاد و بنسيجها الاجتماعي و رهاناتها الاستراتيجية كما ترتبط بالعدالة الجبائية و بالمساواة في المواطنة … و لا يمكن أن يتواصل هذا العبث الذي حوّل المهنة الأكثر نبلا: “التعليم “إلى تجارة خارجة عن الأخلاق و القانون و لأنّ تعريف الدّولة يتأسّس على القدرة على إخضاع الأفراد و الجماعات كائنا من كانوا و نكتفي بهذه اللّفتة و لو شئنا ” لقلنا العجائب ” على حدّ تعبير نزار القبّاني.
بقلم فوزي النوري