في عصر تراهن كبرى الاقتصادات العالميّة على الرأسمال البشري نظرا للتحوّلات الحاصلة في تركيبة النسيج الاقتصادي العالمي وزحف القطاع الثالث على القطاعين الأول والثاني ( الفلاحة و الصناعة) وذلك نظرا لمردوديته العالية ومرونته ، هذا القطاع يرتبط بشكل عضوي بالرأسمال البشري الذي نحن بصدد التخلّي عنه من خلال عجزنا عن إيقاف نزيف هجرة الكفاءات والعقول التونسية وعن إنقاذ شبابنا من الهاربين في قوارب الموت .
اليوم تحوّلت تونس إلى مركز تكوين شبّان ومصنع للكفاءات التي يتمّ تقديمها للشركات المتعدّدة الجنسيات وكبرى المستشفيات والمصحّات عبر العالم كما يتمّ التفريط في مخزون البلاد من اليد العاملة الشابة بما يمثّله ذلك من أخطار على الاقتصاد والبلاد عموما .
إلى اليوم لم يتمّ التعاطي مع هذه الأخطار الكبرى والمتعاظمة بالشكل المفترض والمفروض إذا كنّا نقيم وزنا للمسؤولية الأخلاقية والقانونية والانسانية كما يتمّ طرح قضيّة الهجرة بشكل اختزالي يحصرها في مستواها الاجتماعي والمآسي المرتبطة بال(الحرقة وقوارب الموت)، هذا التعاطي السّاذج والبسيط لن يوقف هذا النزيف لأنّ المسألة تتطلّب مقاربة استراتيجية وشاملة تشرف الدّولة على صياغتها وتنفيذها وينخرط فيها المجتمع المدني وكلّ العقول والأقلام التي تحمل هذا الهمّ الجماعي .
لكي لا تبقى المسألة في مستوى التصوّرات العامّة والمسقطة وننخرط كغيرنا في التوصيف والتباكي سنوجّه أسئلتنا للجميع ونذكّرهم بواجبهم تجاه هذه الأرض: أين هي الدراسات الاقتصاديّة التي تظهر خسائر الدّولة من هجرة الكفاءات التونسية؟ هل طرحت هذه المسألة بشكل علمي وتمّ تناولها بكلّ تفصيلاتها بما فيها الفارق في الأجر بين الداخل والخارج؟ أين هي الدراسات الاجتماعيّة والنفسيّة التي تفسّر لجوء شباب في عمر الزهور لقوارب الموت هربا من جحيم وطنهم؟ هل انتبه هذا الاعلام المبتذل والغارق في التفاهة إلى أنّ التحسيس والتنبيه لأخطار الهجرة بشقّيها النظامي والسرّي يفترض أن يكون في قلب اهتماماته؟
في المحصّلة هذا النزيف المتصاعد لا يمكن طرحه خارج السياق العام المرتبط بهذا العالم المفتوح وبالعولمة والذي حوّل الكفاءات والرأسمال البشري عموما إلى مادّة أوّليّة يتمّ استجلابها من كلّ أصقاع هذا الكوكب تماما كالنفط والغاز والنحاس للشركات الكبرى والمصانع ومكاتب الدراسات …
من المحزن أنّ هذا البلد الذي راهن منذ الاستقلال على الرأسمال البشري والتضحيات التي قدّمتها نساء مناضلات وآباء مناضلون وما تكبّدته الدّولة الاجتماعية من خسائر بحكم مجانيّة التعليم يتمّ اليوم التفريط به لينهي حلم الدّولة القويّة ويتحوّل أبناءنا (المضحّى لهم) إلى (مضحّى بهم) وتتعقّد الوضعيّة الاقتصاديّة المعقّدة أصلا وتنضاف بؤرة أخرى للبؤر المتناثرة التي تنخر النسيج الاقتصادي والاجتماعي.
بقلم: فوزي النوري